الكلام زاد الساسة ومحرّكي الجماهير من وراء الأستار. الحيلة تكمن دائماً في السيطرة على الجماهير الساكنة والسائرة دون هدف بكلام يحتمل التأويل ويبقى المعنى في بطن القائل، أما الحقيقة فليست سوى التأويل الذاتي الذي يرغبه من يقف وراء الستار؛ فتصبح الحقيقة شيئاً ما في فترة ما وشيئاً آخر في فترة أخرى ويضيع المعنى وسط طوفان الكلام العائم ويصير غريباً من يطرح تأويلاً آخر لنفس الكلام. كلام كلام كلام كلام كلام كلام
أدركتُ مبكراً معنى أن تكون نغمة مغايرة وسط لحن رتيب. الإدراك مؤلم وعواقبه سهلة القدوم وشديدة الفاعلية؛ تستطيع أن تستنشقها في كل خطوة على هذه الأرض الغريبة (؟) وربما داهمتك في عزلتك فيصير العالم/عالمك كبحيرة ساكنة رُشّت بمادة ملوّنة فاستعمر اللون المياه
الجميع في اللحظة الراهنة؛ لحظة الثورة والفوران، اللحظة الفارقة كما يردد الكثيرون، لحظة التحولات التي تنتظر من يمسك بها أولاً، يجذبها لملعبه ويمتطي التاريخ. يلعب بمسار التاريخ لحظة ثم يصبح جزءاً من نسيجه المتجانس في تنافره. الجميع يؤكد على أن التاريخ سيأخذ مساره الطبيعي (؟)؛ دورنا فقط هو إزالة العوائق من أمامه. الكلّ على إختلاف إنتمائه [الأيدلوجي] يردد هذا الكلام. لكن من يملك الحقيقة؟ لا أعرف.
"لقد تغذّينا على الأوهام حتى تُعيننا على إستكمال الحياة."
الذاكرة إنتقائية. وحتى لو لم تكن كذلك فذاكرة الساسة [ومريديهم من ولاد الوسخة] إنتقائية بالضرورة؛ فهم يبتعثون لحظة شاردة في التاريخ الممتد ويبنون عليها خطابهم السياسي فيصبح الماضي هو تلك اللحظة بالذات ويصبح المستقبل هو إعادتها، يصنعون تاريخاً مُرقّعاً، وكلّه بالديمقراطية.
لحظة+لحظة+لحظة = تاريخ
وولاد الوسخة يعرفون المستقبل جيداً، لأن صورته موجودة عندهم. فالماضي كما يريدون أن يعرفوه هو نفسه المستقبل كما يرغبوه. حياة تكرارية رتيبة، فأين الخيال يا ولاد الوسخة؟
الألم عند هؤلاء التكراريين ناتج عن عجزهم عن التكرار؛ أما ألمي فناتج عن إنتفاء العكس: الإختلاف والسفر بين اللحظات المتغيّرة. ربما كانت هناك لحظة نادرة في تاريخنا المليء بالندوب يروق لي أن أحياها فترة، فهل الندرة والتفرّد عيباً إنسانياً أو سياسياً؟ أم أن العملية السياسية تقوم على مبدأ الندرة النسبية؟ أم أنني أسأل السؤال الخطأ أساساً؟
الأنبياء [وكل الرائين] يتوقون لخلق لحظة جديدة في مسار التاريخ (لاحظ إختلاف الأديان) رغم أنهم -حسب الميثولوجيا الدينية- مُكلّفون من إله واحد. يقول لي صديق أن هذه الفكرة قد تذهب إلى القول بوجود صراع آلهة أو إله مِزاجي: إختلاف اللحظات المرغوبة هو إختلاف مِزاجي، ولكن لندع هذا الطرح جانباً الآن حتى لا نُتهم بازدراء الأديان :). لنعود لفكرتنا الأساسية؛ الأنبياء إستولدوا لحظاتهم المغايرة في أوساط تكرارية تتعيّش على التشابه الأزلي وإنبساط التاريخ كطريق يبدأ من لحظتهم الآنيّة، التاريخ عندهم يبدأ من الحاضر ولم يدركوا (أو تعمّدوا ذلك) أن التاريخ يبدأ من لحظة ماضية، غير محددة لم يعرفوها ولم يحاولوا؛ ربما خوفاً من إدراك يبعث في نفوسهم الشكّ فيضعون حياتهم على ميزان أعمى. الحقيقة أنني أجد في نفسي تعاطفاً نسبياً تجاه هؤلاء البشر حين أفكّر في لحظة الوعي التي تغمرهم بنصاعتها فيدركون أنهم مجرّد نقطة في محيط لن يستطيعوا –مهما حاولوا- إدراك حدوده، ستكون ثوابت حياتهم محض إحتمال. لذلك كان من الأسهل أن يبدأ التاريخ من اللحظة التي وجدوا فيها وليس العكس، وعندئذ يمكنني تفهّم عذاب الأنبياء والرائين. إنهم يهدمون بمعول قاس في حركته كل التاريخ الذي عرفه أقرانهم في تلك اللحظة التاريخية فضلاً عن العصف الذهني الذي يسببه التعاطي مع هكذا أفكار جديدة. أستطيع، بقليل من التجاوز، القول بأن الإنسان يرتاح للبديهيات المتوارثة دون التثبت من صدقها؛ درءاً لوجع الدماغ ربما. وحين تتجرّأ تلك الفئة القليلة المُعذّبة (دائماً هناك فئة مُعذّبة وقليلة) على الخوض في إمتحان تلك البديهيات فإنها تدخل في حقل ألغام قد لا تستطيع عبوره إلى الشاطيء الآخر.
ومن سخرية القدر أنه إذا ساعدت "أحدنا" إرادته وعبرت به إلى الشاطيء الآخر فإنه لا يهنأ أبداً بمكانه الجديد لأنه سيكون وحيداً، تلاحقه صيحات تأتي من وراء حقل الألغام، فإما يعود إلى ما وراء حقل الألغام (مع الأخذ في الإعتبار إحتمال أن يودي لغم ما بحياته في طريق العودة) أو البقاء وحيداً منبوذاً على الشاطيء وهنا يصير الشاطيء الآخر مكاناً ملعوناً هو الآخر.
كل الكلام كالمياة بين الأصابع، فما العمل يا مُنى ؟
اللوحة ل: Jordan Gray
2 comments:
يا خبر ابيض
بقالى كتير مقريتش كلام (مهم) زى ده تخيل ؟؟
تحياتى
Post a Comment